تزايدت ظاهرة الانشقاقات بشكل لافت داخل التنظيمات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة، لا سيما وأنها لم تعد تقتصر على تنظيم أو تيار بعينه، أو حتى نطاق جغرافي محدد، وهو ما نتج عنه تعدد التنظيمات الإرهابية. ويعود ذلك، في قسم منه، إلى فشل قادة هذه التنظيمات في السيطرة على تلك الانشقاقات أو منعها، بشكل كان له دور في تصاعد ظاهرة العنف المسلح، في ظل ما يطلق عليه التنافس الجهادي بين التنظيمات الرئيسية والمجموعات المنشقة عنها، على نحو بات يطرح تساؤلات حول أسباب عدم قدرة التنظيمات الإرهابية على احتواء هذه الظاهرة، رغم حرصها على أن تظل كتلة واحدة متماسكة وسعيها للتمدد والانتشار.
علاقات شائكة:
فرضت ظاهرة الانشقاقات داخل التنظيمات الإرهابية علاقات شائكة فيما بينها، وصلت إلى حد اندلاع مواجهات مسلحة استهدفت قياداتها وكوادرها إلى جانب مواقعها، خاصة وأن المجموعات المنشقة تسعى إلى إثبات قدرتها على توسيع نطاق نفوذها ورفع مستوى انخراطها في العمليات الإرهابية، على غرار المواجهات المستمرة بين حركة "طالبان" الأفغانية والمجموعات التي انشقت عنها وبايعت تنظيم "داعش" خلال الأعوام الأخيرة.
ويبدو للوهلة الأولى أن جماعة "بوكو حرام" النيجيرية تعد استثناءً في هذا السياق، نظرًا لوجود حالة من التعايش بين الجماعة الرئيسية التي بايعت تنظيم "داعش" في مارس 2015 ويقودها حاليًا أبو مصعب برناوى، والمجموعة التي انشقت عنها بقيادة أبو بكر شيكاو الذي أطيح به من قيادة الجماعة من قبل أبو بكر البغدادي في أغسطس 2016، حيث اتفق الطرفان مؤخرًا على ضرورة التعاون في مواجهة الجيش النيجيري.
ولكن ذلك لا ينفي تصاعد حدة العداء الفكري بين الطرفين، بشكل يضع حدودًا لهذا التعايش الذي يبدو مؤقتًا، لا سيما بعد أن تراجع شيكاو عن بيعته للبغدادي عقب الإطاحة به، واتجاهه إلى التقارب مع المجموعات القاعدية الموجودة في غرب إفريقيا.
وتعد حركة "شباب المجاهدين" الصومالية المثال الأبرز لتلك الظاهرة، عندما انشق عنها مختار ربو أبو منصور، الذي قام بتسليم نفسه مع المئات من أنصاره إلى الحكومة الصومالية، في أغسطس 2017، بعد أن شنت الحركة العديد من الهجمات من أجل القضاء عليه، وهى الآلية نفسها التي اتبعتها في التعامل مع عبد القادر مؤمن الذي انشق عنها ومعه ما يقرب من 200 من عناصر الحركة، وبايع تنظيم "داعش" في أكتوبر 2015.
وتؤدي تلك الانشقاقات، في الغالب، إلى تكريس التنافس كنمط رئيسي في التفاعلات بين تلك المجموعات، على غرار العلاقة بين تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، ومجموعة أبو الوليد الصحراوي، التي انشقت عنه وبايعت "داعش" في مايو 2015، وهو ما مثل ضربة قوية آنذاك للتنظيم، الذي سعى إلى القضاء عليها إلا أنه فشل في تحقيق ذلك، حيث ما زالت المجموعة متواجدة على الساحة، وإن كانت تحاول أن تنأى بنفسها عن مواجهة التنظيم، لإدراكها أن ذلك يمكن أن يضعف من قدراتها ويقلص من نشاطها، ويبدو أن ذلك دفعها إلى تبني خيار آخر، يتمثل في منافسة التنظيم على صعيد تنفيذ العمليات الإرهابية.
ومن دون شك، فإن الانشقاق الأبرز في هذا السياق قامت به "جبهة النصرة" (التي قامت بتغيير اسمها بعد ذلك إلى جبهة فتح الشام) عندما انفصلت عن تنظيم "داعش" ورفضت مبايعة البغدادي، وهو ما أدى إلى اتساع نطاق التنافس بين التنظيمين على كل المستويات العسكرية والتنظيمية والاقتصادية وحتى الدعوية.
اعتبارات عديدة:
رغم أن ظاهرة الانشقاقات داخل التنظيمات الإرهابية ليست جديدة، إلا أنها تصاعدت خلال الفترة الأخيرة بشكل غير مسبوق، وهو ما يمكن تفسيره في إطار اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- الانشطار التنظيمي: يمكن القول إن كثيرًا من التنظيمات الإرهابية تحمل بداخلها عوامل الانشقاق والانقسام، وهو ما يعود إلى الطبيعة الفكرية التي تقوم عليها هذه التنظيمات، حيث أن الأفكار المتشددة بطبيعتها انشطارية، فضلاً عن أنها تضم في الغالب اتجاهات عديدة بشكل يصعب معه الوصول إلى توافق على الأهداف العامة التي تسعى تلك التنظيمات إلى تحقيقها.
2- التنافس القيادي: تضم كل التنظيمات الإرهابية من يطلق عليهم "قادة الصف الأول"، وهم غالبًا من المؤسسين للتنظيم، ويكونوا، في الغالب، متقاربين في السن والخبرة والسمات الشخصية والفكرية. وفي بعض الأحيان، يؤدي تولى أحدهم للقيادة إلى تكريس حالة من التوتر في العلاقات مع القيادات الأخرى التي تسعى إلى الوصول للمنصب نفسه، بشكل يدفع بعضهم إلى الانشقاق من أجل تحقيق هذا الهدف في المجموعات الإرهابية التي يقومون بتأسيسها بعد ذلك.
3- القرار المفاجئ: تحدث بعض الانشقاقات بشكل مفاجئ، وهو ما لا يتيح خيارات متعددة للتنظيم الرئيسي من أجل التعامل معها أو ممارسة ضغوط على منفذيها للتراجع عنها والعودة إليه من جديد. وتتعمد كثير من المجموعات المنشقة الابتعاد عن مناطق نفوذ التنظيم الرئيسي بالتوازي مع استعدادها للانشقاق عنه، لتجنب استهداف قياداتها وعناصرها من جانبه.
4- السيطرة المطلقة: يؤدي إصرار بعض قيادات التنظيم الرئيسي على التفرد باتخاذ القرارات دون الوصول إلى آراء توافقية، خاصة إزاء التعامل مع الضغوط التي يتعرض لها التنظيم، إلى اتجاه بعض الكوادر إلى البحث عن خيارات أخرى، لا سيما أن بعض القرارات الفردية التي تتخذها تلك القيادات تفرض تداعيات وخيمة على الأخير.
وعلى ضوء ما سبق، يمكن القول إن ظاهرة الانشقاقات داخل التنظيمات الإرهابية سوف تستمر خلال المرحلة القادمة، خاصة في ظل الضربات القوية التي تتعرض لها كثير من تلك التنظيمات، بشكل بات يضعف من قدرتها على منع انفصال بعض المجموعات عنها وعلى تحقيق أهدافها، بعد أن تزايد اهتمام المجتمع الدولي بمواجهتها، عقب وصول عملياتها الإرهابية إلى بعض العواصم الغربية في الفترة الماضية.